رحلة طالب في وزارة التربية: من هالك لمالك لقبّاض الرواح
أن يُطلب منك وثيقة رسميّة ومصدّقة، فلا تظن أن هذا الأمر بالسهولة التي تتخايلها، ولن يأتي بكبسة زر كالدول المتقدّمة والمتحضّرة، فأنت يا عزيزي القارىء في لبنان، فابتسم وخذ نفسًا عميقًا لنبدأ رحلة البحث عن “وثيقة”.
طلب مني شخصيًّا أن أعادل شهادتي الجامعية من وزارة التربية، لزوم التقدم إلى مرحلة دراسيّة جديدة، فجهّزت كل الأوراق اللّازمة التي من المُتوقع أن أُسأَلَ عنها، حتى أني أخذت في ملفي شهادة البريفية لربما شاءت الوزارة أن تطلبها، وصممت أن أكون في الصباح الباكر أول الواصلين إلى وزارة التربية، لاعتقادي أنّ لا زحمة في الصباح.
بخلاف ما توقعتُ وجدتُ زحمةً خانقة على مدخل الوزارة، حتى خيّل لي أنّ كلّ الشعب اللّبناني احتشد ليفتح باب الوزارة، لتبدأ مشاهد الطوابير المعتادة، أمام المكاتب وأمام باعة الطوابع وآلة التصوير.
بعد أكثر من ساعة، جاء دوري، تبسمت تلك الابتسامة التي نرسمها جميعًا عندما يصل دورنا في طابور البنزين، وشعرت أنني بطل، لكن بطل من فقاعة ستنفجر بعد ثوانٍ، بعد أن ردّ لي الموظف الملف قائلًا: أنت بحاجة إلى صورة عن الهوية، أخذت نفسًا عميقًا وابتسمت وانسحبت وذهبت لأصوّر هويّتي.
كاد الطابور أمام آلة التصوير أن يصل إلى الشارع العام، تذكرت حينها أنّ بحوزتي صورة عن الهوية في سيارتي، جلبتُها وذهبتُ إلى ذاك الموظف، بعد أن انتظرتُ دوري بالطابور للمرّة الثانية، أخذ الملف وحدّق بالأوراق وقال لي: شهادة الثانوية العامة مصادق عليها عام 2017، وأنت بحاجة إلى تجديد المصادقة.
هنا بدأ البخار يتصاعد، هل لختم الدولة تاريخ انتهاء صلاحية؟؟ لا أظن ذلك، فتواريخ الصلاحيات لا يعتد بها في لبنان حتى على معلّبات الطعام، لكن ما من حل سوى أن أطيع، ذهبت لأصوّر الشهادة رأيتُ الطابور الشهير، ففضّلت أن أتوجه إلى أيّ مركز تصوير خارج الوزارة فإن أردت الانتظار بالطابور، سينتهي الدوام قبل أن يصل دوري.
توجهت سيرًا على الأقدام إلى كلية التربية جانب الوزارة، وصورت الشهادة وعدت لأصادق عليها من جديد، فقال الموظف: حبيبي أنت مش هون لازم تقدم، إنت لازم تروح على الطيونة.
لك عزيزي القارىء أن تتخايل خمس ساعات من الركض المضني “من هالك لمالك لقبّاض الرواح” ليأتيكَ الجواب كالصاعقة، هنا بدأ الضغط يرتفع ومن ثم ينخفض، السّكري هبط، حتى التهاب العصب الوركي تحرّك، وعدت مجددًا إلى سياسة النفس العميق، تذكّرت كل التعاليم والقيم التي تربيت عليها، وأنه لا يجوز أن أتجاوزها.. فاختنقتُ بصمتي.
قررتُ أن اتصل أشكو همّي للجامعة، فقالت لي الموظفة إن كلام الموظف في الوزارة غير صحيح، إذ يجب أن تتقدم بالطلب لديه.
عليه، قصدتُ أحد المسؤولين في الوزارة الذي أكّد كلام الموظف لديه. ما باليد حيلة، انطلقت إلى منطقة الطيونة، وتحديدًا إلى مبنى عمادة كلية الحقوق، صعدتُ السلالم حتى الطابق التاسع نظرًا لغياب الكهرباء، وعندما وصلت قالت لي الموظفة وبكل لباقة: يا ابني طلبك مش عنا، طلبك بوزارة التربية.
ما عدتُ أستطيع أن أربط جأشي أكثر، فانفجرتُ غضبًا لاعنًا الدولة من رأسها حتى أخمص قدميها، من كبيرها لصغيرها… حزنت الموظفة لحالي فأجرت عدّة اتصلات مع المعنيين الذين أكّدو لنا على صحّة كلامها.
عدت إلى الأونيسكو عند الموظف نفسه، تناول الملف مني وعاد وطلب مني مجموعة أوراق ووثائق، لحسن حظي أنّي محتفظ بجميعها في سيارتي… بعد طول عناء قدّمت الملف، ليعطيني الموظف وصلا بالاستلام، حجمه لا يتعدى مساحة راحة اليد.
سردت كل هذا السرد لأقول، إن دولة عاجزة عن تقديم أبسط المعاملات اليومية لمواطنيها يستحيل أن تنجح وتصحو من انهيارها، هو ليس ذنب الموظف ولا الوزير الحالي ولا السابق، هو ذنب الدولة أجمع منذ أن وجدت، الدولة التي لا تطوّر نفسها، ولا تبحث عن تسهيل لحياة المواطنين لا تستحق أن تكون بمصاف الدول، هي “مزرعة” على أبعد تقدير وفي ألطف تعبير.
يحق للمواطن الاستحصال على أي ورقة رسمية في زمن قياسي ودون جهد يذكر، ودون الخوض في كل هذا الذل، لماذا السجل العدلي وورقة المختار وصورة الهوية؟ لماذا لا يكون هناك نظام يربط كل أجهزة الدولة ببعضها، تقدّم هويتك فقط للتقدم بأي طلب، ومن خلال رقم الهوية وبنقرة زر تظهر سيرتك لدى الموظف؟
رويت ما حصل معي ليكون اللّبناني على بيّنة بما ستحمله إليه كل دوائر ومؤسسات الدولة من “شمشطة”، ولتكون هذه القصة رسالة مفتوحة إلى الوزراء والمعنيين، ليوقفوا هذا المسلسل الماراثوني الذي يعيشه المواطن في أقبية وزاراتهم، ويقوموا بجهود ولو خجولة، لتغيير هذا النمط البليد في سير المعاملات.
منير قبلان